سلطة الهيئة العامة في المحكمة العليا

في إصدار المبادئ القضائية

  • هل صحيح أن الهيئة العامة في المحكمة العليا تنحصر وظيفتها فقط في استخلاص المبادئ القضائية من أحكام المحاكم العليا ؟ وأنها أعمال مادية لا أثر قانوني لها؟

  • هل صحيح أن الهيئة العامة أساءت فهم نظام القضاء، وأن المشرع السعودي حينما عبر بــ"مبادئ عامة في المسائل المتعلقة بالقضاء" أراد تقليد الأنظمة الأخرى حيث أن المبدأ لا يكون إلا وليد أحكام القضاء؟

       أحد الفضلاء المحامين قبل فترة قريبة أشار لهذا الأمر وقرره اعتمادا على مفهوم "المبدأ" في الأنظمة الأخرى التي نستلهم وأحيانا تنسخ منها أنظمتنا. لكن للإجابة على أسئلتنا لا يمكن حصر أسلوب تفسير النص بطريقة واحدة، لذلك سيتم تناول التفسير من ثلاث زوايا: قبلية، وحالية، وبعدية. مع محاولة الاختصار والتركيز قدر المستطاع واستخدام عبارة واضحة توصل للمقصود.


الزاوية الأولى

       الزاوية الأولى: معرفــة ثقافة المشرع نفسه وتعامله مع فكرة "المبادئ"، وأسهـــل وأقرب طريقة لهذه هو النظر لنظام القضاء القديم (1395)، وسنجد فيه أن المشرع جعل إصدار المبادئ ليست حصرا على ما يستخلــص من أحكام المحكمة العـليا. فقــد أشــار المشرع بشكل صريح وواضح لــذلك في المــادة الثامنــة (1) على أن من اختصاصــات مجلس القضـاء الأعلى: "النظر في المسائل الشرعية التي يرى وزير العدل ضرورة تقرير مبادئ عامة شرعية فيها.

       هذه الزاوية القبلية تقدم لنا احتمالية كبيرة أن المشرع اعتمد في فكرة المبادئ على النظام السابق وطورها، بالتالي لا يمكن الجزم الآن أن أن المشرع أراد تقليد الأنظمة الأخرى التي يستنســخ ويتأثر منها. وهذا يجعلنا بحاجة للنظر للزوايا الأخرى للمعرفة الدقيقة لمراد المشرع السعودي.

الزاوية الثانية

       الزاوية الثانية: هي النظر لنص نظــام القضــاء الحالي، وأسلـــوب الصياغــة، وتطبيق قــواعــــد التفسير. وهنا قاعدتان قبل الدخول في التفصيل: الأولى أن تفسير كلام المتكلم لابد أن يكون من خلال فهم أسلوبه وطريقة كلامه. والقاعدة الثانية: أن إعمال الكلام أولى من إهماله، وأن الأصل في الكلام التأسيس. 

       وللتفصيل، نقول: [1] في نفس اليوم الذي صــدر فيه نظـــام القضاء صـــدر أيضا نظام ديوان المظالم، والملاحظ أن كلا النظامين تطرقا لفكرة المبادئ، لكن نظام ديوان المظالم كان واضحا وصريحا بأن المبدأ يكون من خلال الأحكام القضائيـــة. فتــــرى ديوان المظالم لا يذكر المبدأ إلا ويقرنه بما يشير إلى أنه صادر من حكم، ولم يفرد له فقرة مستقلـــة. بخــــلاف نظـــــام القضـــــاء الذي أفرد له فقرة مستقلة، وذكره مجردا من أن يكون صادرا من حكم، ولا تكون الزيادة إلا لمعنى.

نظام ديوان المظالم:

المادة العاشرة: 3 - يكون للمحكمة الإدارية العليا هيئة عامة برئاسة رئيس المحكمة، وعضوية جميع قضاتها، ويكون أقدم قضاتها نائبا له عند غيابه، وتنعقد الهيئة برئاسة الرئيس أو نائبه، ولا يكون انعقادها نظاميا إلا إذا حضره ثلثا أعضائها على الأقل بمن فيهم الرئيس أو من ينوب عنه، وتصدر قراراتها بأغلبية أعضائها. 4 - إذا رأت إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا ـ عند نظرها أحد الاعتراضات العدول عن مبدأ تقرر في حكم صادر منها أو من إحدى دوائر المحكمة ؛ تعين على الدائرة رفع الاعتراض إلى رئيس المحكمة، ليحيله إلى الهيئة العامة للمحكمة للفصل فيه.

المادة الحادية عشرة: تختص المحكمة الإدارية العليا بالنظر في الاعتراضات على الأحكام التي تصدرها محاكم الاستئناف الإدارية ، إذا كان محل الاعتراض على الحكم ما يأتي: أ - مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، أو الأنظمة التي لا تتعارض معها أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها، بما في ذلك مخالفة مبدأ قضائي تقرر في حكم صادر من المحكمة الإدارية العليا .


نظام القضاء:

المادة الثالثة عشرة: 1- يكون للمحكمة العليا هيئة عامة برئاسة رئيس المحكمة وعضوية جميع قضاتها. 2 - تتولى الهيئة العامة للمحكمة العليا ما يلي : أ - تقرير مبادئ عامة في المسائل المتعلقة بالقضاء. ب - النظر في المسائل التي ينص هذا النظام - أو غيره من الأنظمة - على نظرها من الهيئة العامة. 3 - لا يكون انعقاد الهيئة العامة نظاميًّا إلا إذا حضره ثلثا أعضائها على الأقل بمن فيهم الرئيس أو من ينوب عنه. 4 - تصدر قرارات الهيئة العامة بالأغلبية للأعضاء الحاضرين، فإن تساوت الآراء يرجح الجانب الذي صوت معه رئيس الجلسة، وتعد قراراتها نهائية.

المادة الرابعة عشرة:

إذا رأت إحدى دوائر المحكمة العليا - في شأن قضية تنظرها - العدول عن مبدأ سبق أن أخذت به أو أخذت به دائرة أخرى في المحكمة نفسها في قضايا سابقة، أو رأت إحدى دوائر محكمة الاستئناف العدول عن مبدأ سبق أن أخذت به إحدى دوائر المحكمة العليا في قضايا سابقة، فيرفع الأمر إلى رئيس المحكمة العليا لإحالته إلى الهيئة العامة للمحكمة العليا للفصل فيه.

       قد يقول البعض بأن المشرع حينما قال "تقرير" يقصد "استخــــلاص" مبــادئ من الأحكــام الموجودة، ولكن هدا غير صحيح لأن [2] من أساليب الصياغة القانونية تقديم الأهم والأولــى، فكيف يجعل الفقرة التي تنص على أن الهيئة تنظر للمسائل التي ينص عليها النظام والأنظـــمة الأخرى فقرة متأخرة عنها؟ أضف لذلك، [3] أن مثل هذا العمل لا يناط بقضاة المحكمة العليا عادة، بل يناط بمكتب فني أو إدارة بحثية تتبع الجهاز العدلي.


       يبقى أن البعض يقول بأن المادة (14) من نظام القضاء ذكرت بأن الهيئة العامة تنظر فــي المبادئ التي ترى محاكم الاستئناف أو العليا العدول عنها، بالتالي فإن كلمة "مبادئ" في المــادة (13 - 2 - أ) يجب أن تفسر على ضوئه. لكن هذا لا يبدو صحيحاً للأسباب التالية، [4] لا يوجــد لازم لتفسير المادة (13 - 2 - أ) بالمادة (14)، فاللازم يكون عند التعارض بين النصين ولا تعــارض، أو إن أحال لها المشرع في نفس المادة ولم يفعل! أيضا [5] أن الأصل في الكلام التأسيس، ولـو فعلنـا وفسرنا هذه بهذه لجعلنا المشرع يكرر النص بلا فائدة. أخيرا، [6] الصواب أن المادة (14) هي تطبيق للفقرة (ب) وليـــــس (أ) من المادة (13-2)؛ فقد أشار المشرع في المـــادة 13 فقرة (2-ب) أن مـن اختصاصات الهيئة النظر فــــي المسائل التي ينص عليها هذا النظام والأنظمة الأخرى. فلو بحثت في النظام لن تجد مهمة نص عليهـــــا النظام غير المــادة (14)، فلــو وافقنــا مـــن يقـول بأن (14) هي توضيح المعنى في (13-2-أ) لوقعنا إما بجعل جزء من مادة (13-2-ب) مهملا! أو قلنا أن المشرع يكـــثر التكرار فهـــــو يذكر المبادئ ويشير لها ثلاث مرات في مادتين بلا هدف، وهذا يخــالــف أســاليب الصياغة!

الزاوية الثالثة

       الزاوية الثالثــة والأخيرة نستفيـــدها من حكم من أهــم أحكـــام المحكمة العليــا في أمــريكا،

والذي يتطرق للاخصاص في الدعاوى المدنية المتعلقة بانتهاك براءات الاختراع. وللتوضيح، يـــوجــــد في النظام الأمريكي قسم (1391) يتكلم عن الاختصاص عموما في الدعاوى المدنية، وقسم آخر (1400) يتــــكلم عـن الاختصــاص فــي الدعــاوى المدنيـــة المتعلقــة بـبــراءات الاختراع. هــذا العموم والخصوص يخلق جدل في التفسير وجدل قديم في صلاحية القسم (1400).

       في عام 1957 أصدرت المحكمة العليا حكما فيه تفسيرا للقسم (1400) وأنه ساريا ولم يحل محله القسم (1391). في عام 2017 أصدرت المحكمة حكما آخر يعتمد على الحكم القديم، وقـالت: إن الكونغرس قام بتعديل القسم (1391) مرتين بعد الحكم القديم، ومع ذلك لم يقم بتوضيــح أو وضع تعديل يصحح فهم حكم عام 1957، مما يعني عدم رغبة المشرعين بنتيجة مغايرة لما انتهت المحكمة إليه. (لمزيد اطلاع انظر الآتي)

28 U.S.C. s 1400 (b)

28 U.S.C. s 1391 (c)

Fourco Glass Co. v. Transmirra Products Corp., 353 U.S. 222 (U.S. 1957)

TC Heartland LLC v. Kraft Foods Group Brands LLC, 137 S.Ct. 1514, 1520 (U.S.,2017)

       في مسألتنا، أصـــدرت الهيئـــة العــــامة العديــــد من المبادئ، اعتمادا على فهمــــها للمادة

(13-2-أ)، وتم تعديل نظام القضاء في عام (1440)، ومع ذلك لم يقم المشرع السعودي بتعديل أو تصحيح يدفع اللبس الذي وقعت فيه الهيئة إن كانت أخطأت! مما يدل أن الهيئة إما أصابت، أو - في أسوأ الأحوال - أخطأت ولكن المشرع أقر ورضي تفسيرهـــا بسكوته عن أمر لا يسع السكوت فيه.


       أخيرا، نستفيد أن الفقه القانوني الذي نستلهمه وأحيانا نستنسخ نصوصه من الدول العربية الأخرى ليس مرجع تفسيري وحيد، ولا ينبغي أن نطبقه تماما كما هو إذا دلـــت أدوات التفسير أن المشرّع لم يرده.

       وما هذا المثال المذكور هنا إلا واحد من أمثلة كثيرة تقوم فيه التشريعــــات السعـــودية على استنساخ أو استلهام بعض المفاهيم القانونية ولكن دون تطبيقها بنفس المفهوم، ليـــس خطأ أو دون فهم لتلك الأنظمة بل تقصدا لذلك، والله أعلم.